فلسفة التواصل في عصر التقنية - TopicsExpress



          

فلسفة التواصل في عصر التقنية يورغن هابرماس في مواجهة كارل ماركس ومارتن هيدغر حسن مصدق ساد الاعتقاد لزمن غير يسير بأن التقنية خلاص الإنسانية من جبروت الطبيعة وآفاتها، واستحكمت هذه النظرة عندما استطاع الإنسان أن يخطو درجات لا بأس بها أهَّلّته للسيطرة على كثير من الظواهر الطبيعية. الأمر الذي سمح له بتوسيع حريته وتحسين قدراته، ما كان له بليغ الأثر في تمدن الإنسان، وساهم بقسط كبير في سمو أحاسيسه والانعكاس إيجابيا على الأخلاق الإنسانية. لكن التقنية ما لبثت أن أصبحت طوفانا يجرف كل ما يلقاه، عندما نزعت من الإنسان آدميته وأغرقته في أوحال الاغتراب وجعلت منه دمية بين أنياب الآلات ومخالبها، ولعل هيدجر أحد أبرز فلاسفة القرن العشرين الذين تناولوا التقنية بشكل غير مألوف. ولعل الرجوع إلى مقارنة بين أبرز فيلسوف يهاجم التقنية )هيدجر( ومن يدافع عنها)ماركس( سيوضح الأمر كيف يحاول هابرماس رائد مدرسة فرانكفورت الثانية تجاوز مخلفات الإرث الفينومينولوجي الهيرمينوطيقي) التأويلي( والماركسي الكلاسيكي على حد سواء. انتقد هيدجر(1976-1889) التعريف السائد للتقنية كأداة ووسيلة لتحقيق هدف، كما التعريف الأنثروبولوجي الذي يرى فيها نشاطا واعيا للإنسان على حد سواء. إذ في الغالب ما تدور تعبيرات التقنية الشائعة حول طابع جوهري يميزها بمظهرين متساوقين يطلق عليهما 'المظهر الأنثروبولوجي" و"الأداتي'، وطبقا لهذا التصور تصبح التقنية' فعلا' إنسانيا حضاريا و'وسيلة من أجل غاية' تنتظمان الواحدة والأخرى منها لإشباع 'حاجياته[1]' . ولدعم الطابع الأنثروبولوجي للتقنية يعمد المفكرون إلى تقديم حجتين: الأولى منها تجزم بأنها مؤسسة على العلوم الطبيعية الحديثة وتعد إحدى تطبيقاتها الملموسة، فلقد أصبحت هذه العلوم بفضل اختراعاتها الخارقة إحدى أبرز الفتوحات الإنسانية التي جعلت التقنية تنتمي للحضارة ومشروع الأنسنة، ولا يمكن تقييمها إلا بربط مساهمتها في تطور الثقافة الإنسانية. ومن هذا التحديد الأنثروبولوجي للتقنية ينحدر طابعها الأداتي:>[2]. والهدف من ذلك إعطاء مبدأ موحد لتاريخ التقنية، يشمل كل مراحلها منذ أن صنع الإنسان أول فأس بدائية إلى غاية صناعته لمحطات الرادار والمحطات الفضائية. فحتما هناك بون شاسع في التعقيد التقني، لكنه لا يعد أن يكون في الدرجة وليس في الطبيعة، فكلها أدوات ووسائل تنتج بغاية أهداف محددة. وبغاية دعم هذا الأفق تعتبر أداتية التقنية حيادية لأنها تميز دور الإنسان الفعلي بوضع شروط عادلة في علاقته بالتقنية إذا ما وجهها إلى غايات روحية، ولقد تزايدت هذه الضرورة بعدما أصبحت التقنية قاب قوسين أو أدنى من الانفلات من قبضة الإنسان ومراقبته[3]. إن تمثل التقنية داخل مدار الأنثروبولوجيا والأداتية يبدو جد متطابقا في أعيننا مع ما يجري، غير أنه مخادع على أكثر من صعيد. ويرجع ذلك بالأساس في محاضرة هيدجر لغة التقاليد ولغة التقنية[4] لى انسجامها مع النموذج التأويلي السائد الذي نفهم من خلاله الأشياء والكون: ذات-موضوع. يبين هيدجر عدم جدية هذا التصور بالرجوع إلى التصور الأنثروبولوجي- الأداتي وامتحان أطروحاته الشائعة والمسلم بها: التقنية كعلم تطبيقي وكأداة خاضعة أو ستخضع لمراقبة الإنسان. وإذا ما كانت التقنية تمر عبر تطبيق فعلي لعلوم الطبيعة وتخضع للمراقبة النظرية، فذلك لم يعد يقبل به اليوم الفيزيائيون والمهندسون على حد سواء. فلقد انتفت واقعية هذه الأطروحة بعد ما كانت فيما مضى لها نصيب من الواقعية عندما كانت الأدوات منظمة بأهداف تجريبية. وفي المقابل أصبحت النظرية الخالصة اليوم معادلة رياضية بامتياز، وبالتالي باتت إجرائية وقابلة للتطبيق. ولعل أبلغ حالة في هذا المضمار ما نشاهده في الفيزياء النووية:>[5]. وتبعا لذلك إذا أصبحت التقنية عاملا محددا في تحيين الوقائع العلمية، وإذا ما كانت تتوفر في صلب بنيتها على شيىْ ينحدر من المعرفة، فليس من الممكن اعتبارها مجرد تطبيق للعلوم النظرية. لذلك نرى عالما فيزيائيا من طراز هايزنبرغ (Heisenberg) يتكلم عن بين العلم والتقنية وإن لم يتساءل حول جوهر هذا التزاوج المتبادل. وبتوضيح أصلهما المشترك يتوجه هيدجر إلى جوهر التقنية، أي أن أسبقية النظرية أصبحت في خبر كان ولم تعد مسلم بها اليوم. فالعلوم الحديثة فرضت نفسها بعد ما أصبحت تجريبية وتقنية ورياضية، ولتحديد مرحلة هذا التطور أطلق عليه المفكرون بما يعرف اليوم ب>[6]. أما بخصوص الأطروحة الثانية ينكر هيدجر وبشدة في حوار له مع صحفيين من جريدة Speigel الأيديولوجيا المهيمنة في الديموقراطيات الغربية التي تتغنى بقدرة الإنسان وتحكمه في التقنية، قائلا قولته الشهيرة:>[7] ونحن بمعرض هذه النقطة، لابد أن نشير إلى أن هذه النقطة تميز رؤية هيدجر للحداثة ككل: فأيديولوجية التقانية العلميةTechno-science تتغذى من عدم قدرة الإنسان الحديث أن يتعرف بواسطة الفكر على>( تساؤلات، الجزء146:III). ومن ثم إن غياب التأمل بالنسبة للإنسان المعاصر يجد سببه في الانبهار أمام التقدم الباهر والفاتن للتكنولوجيات الجديدة. تشهد الوقائع في خضم التطورات السريعة أن هناك قوة تتجاوز إرادة ومراقبة الإنسان، لأنها لا تصدر عنه، بل تجعل أي مشروع سياسي أو أخلاقي يريد توجيهها أو السيطرة عليها محض تهويم وفرقعة في الهواء. والغريب في الأمر أن إرادة التحكم هاته أصبحت خداع ليس إلا، مثقلة بعمي وتواطىْ الفكر التقني نفسه الذي يحاصر الإنسان من كل جانب والذي يخفي وجها آخر للعبودية التي يوجد عليها. إذ >[8]. ولذلك ما زال النقد الهيدجري يحتفظ براهنيته للتمثل الأنثروبولوجي- الأداتي، فلقد برهن جاك إلول J. ELLUL في كتابه النظام التقني(280:1977) بأن التقنية بعيدة كل البعد أن تتطور عبر مسالك الغايات التي نطمح لتحقيقها، بل تتقدم في الواقع عن طريق تطوير الإمكانيات الموجودة فيها أصلا للنمو والتي أصبحت تقانية كوكبية Technocosme ،أي كأفق أخير وليس كأفق للمعنى. بمعنى أن التقنية لا تخضع إلا إلى حتميات نموها الخاصة والعمياء التي تتجسد في تحقيق جميع التركيبات الممكنة التي تسمح بها جميع حالات التجريب بين عناصرها. يوضح هيدجر هذه الضرورة المتخفاة في قلب جوهر التقنية كنذير مستفزGe-stell يتجاوز الإنسان ومشاريعه ونشاطه، بحيث لم يعد قادرا أن يترجم فعليا مبدأ المعقولية الأخير الذي كان يضعه بين الغايات والوسائل. وكما لم يسلم من نقده هؤلاء اللذين يعتبرون التقنية مضادة للميتافيزيقا لأنه يعتبرها ميتافيزيقا مكتملة، مكّنت من تحقيق حلم الميتافيزيقا الأزلي لما جعلت المعرفة ملتحمة بأشياء تلمسها وتعيها الذات العارفة. لذا فالرأي الشائع بأن التقنية لا علاقة لها بالميتافيزيقا، لا يجد مكانا للاعتراف به في فلسفة هيدجر. فهي الميتافيزيقا بعينها. يعود بنا هيدجر محذرا بأن التقنية لا تتمثل في ما تمنحه بصفة ظاهرة: أشياء ووسائل وأدوات ومركبات تقنية وتحديث قوى الإنتاج أو سيرورتها:>[9]. تبدو هذه الأطروحة جد مفارقة ومختلفة عن جميع التصورات المعروضة حول التقنية، لأن المشروع الذي يوجد في صلب التقنية ليس منجزا إنسانيا ولكنه ميتافيزيقا تلف جميع مجالات الواقع ولا تقتصر فقط على الآلات. لقد أرست الميتافيزيقا أسس التقنية حينما جعلت معيار الحقيقة ـ منذ الفلسفة الإغريقيةـ مطابقة الفكر للواقع، مما مهد لأن تحتكر العلوم الوضعية الحقيقة لوحدها، وبدأ ذلك يتضح رويدا رويدا منذ الثورة العلمية التي أحدثها العالم الفلكي جاليليو(1642-1564) الذي دمر الرؤية الكنسية للعالم وغير من نظرة الإنسان الميثولوجية والغيبية للكون، لتقوم على الملاحظة الفيزيائية والدقة الموضوعية. وتأكّد ذلك في عصر النهضة الذي حدد فيه ديكارت هدف العقل في > لا عبيدها، وعلى النحو الذي يسمح بتسخيرها و'استعبادها" كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف دان سكوت. ومن ثم تسنى للعلم أن يلعب دوره الهام بوصفه أداة تساعد في السيطرة عليها كما قال فرنسيس بيكون. لقد أوقدت هذه الرغبة المستعرة للإنسان سبيلا إلى البحث المستمر على حقائق الكون وفهم ظواهره بشكل علمي، وبمقدار ما تتطور السمتان الأساسيتان للفعل البشري: 'المعرفة و'المصلحة' (Connaissance et Intérêt)، تتدخل الإرادة الإنسانية لتطويع النظرية العلمية في تعديل الأشياء وتغيير الواقع، بل قل أنها أصبحت اليوم قادرة على تغيير الطبيعة البشرية كالمزج بين الجينات والقدرة على الاستنساخ البيولوجي وتعطيل الشيخوخة أو اختيار طبيعة النسل: ذكرا أو أنثى، إذ بلغت التقنية شأوا غدت بموجبه"إرادة الإرادة". ولكي نتبين قصد هيدجر من ذلك، يمكن الاستدلال بأن الإرادة الأولى هي التي تحدد الإطار الذي يتم من خلاله توظيف الإرادة الإنسانية، بمعنى أن الجوهر الميتافيزيقي للتقنية يفسره شعور البشر بأن إرادتهم تتجاوزها أشياء من صنع أيديهم حيث أصبح الإنسان مكبَّلا في كل مكان بقيود التقنية. يتجلى ذلك في نموها البالغ السرعة وبصورة رجائحية ومفاجئة أغلب الأحيان، ولا أبلغ من ذلك، أننا أصبحنا مدينين للكهرباء وآلات الطبخ والغسيل ومكيفات الهواء لا نستطيع منها فكاكا. منه ما يقوله هربرت ماركوزه في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد: إن>. فقيمهم متسقة مع علاقات التسويق والاستهلاك، لا تستطيع عنها بديلا أو تبديلا. لقد أدى تقدم تقنياتنا المذهل والطواعية والدقة اللتان توصلت إليهما، بالإضافة إلى العادات والأفكار التي أوجدتها وقوع تغييرات عميقة في حياة الإنسان، إذ يستحيل اليوم أن نرى إلى المادة والمكان والزمان كما كان يحدث في الماضي. لقد انفلت العالم إلى أشكال ممزقة من المعاني التي تتكلم أصواتا متعددة تتفق مع تبايناتها التي أفقدتها الكثير من تناغمها وعمقها، مما أدى إلى فقدان قابليتها لتنظيم حياة الناس وإعطائها معنى. ولعل كتاب نيتشه وراء الخير والشر (1882)، يصور بدقة عالما معاصرا يحبل كل شيىْ فيه بنقيضه:>. وهذا ما يفسر الصرخة المدوية التي أطلقها نيتشه وما زالت تصدح في الآفاق:>. يتم ذلك وفق ما نعت به عالم الاجتماع الألماني ماكس فـيبر(1920-1864) تقنية هذا العصر في الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية بالـ" قفص الحديدي"، إذ أن نظامها التقني والبيروقراطي:> وببأس شديد. فالبنسبة لفيـبر مثلا، ليس معاصروه إلاّ:>. إن جميع الناس فيه إنما تمت صياغتهم وفقا لشباكه وقضبانه، فنحن كائنات بلا أرواح وبلا قلوب وبلا هويات جنسية أو شخصية. إن الإنسان الذي تمنى يوما ما أن تجعل منه التقنية سيدا صار به الحال عبدا للأدوات التي أنتجها، مما ساعد في عدم شعوره بالأمان وازدياد مظاهر القلق والاكتئاب إلى حد بلغت فيه روحه كما سمي سارتر روايته الشهيرة: الغثيانnausée' 'La ، وأصبح في الوقت نفسه أسرى صدمات وتشنجات عنيفة بالمقدار نفسه الذي يحس بأنه مشحون بقوة حيوية تضخم كينونته كلها. يلغي هذا الفهم عند هيدجر حياد التقنية وهو رأي متداول وشائع بعد أن ساد الاعتقاد بأنها في حد ذاتها ليست خير أو شر كله، بل يتوقف الأمر على كيفية استخدامنا لها، والمثال الذي يجري تقديمه كل مرة و بكل أريحية، هو الطاقة الذرية التي يمكن أن تستخدم لغرض سلمي أو غرض مدمر. يعارض هيدجر هذا المفهوم الماركسي أشد الاعتراض، ويرى أنه في اللحظة التي تنطلي علينا حيلة أن التقنية محايدة نضل سواء السبيل ونقع في المحظور ونوقع صك نهايتنا وبأسوأ الأشكال. ويفسر ذلك بأن الأزمة لا تنبع من وظائف ما يصدره الإنسان بعد اكتمال المنجز التقني، لكنها تبدأ أصلا من أسسه حتى قبل الشروع في إنجازه. فالتقنية نوع من اللعبة الخبيثة التي تجيد إطباق فخاخها على الإنسان، لأنها تنطوي على مفارقة كامنة في صلبها، فيكون المتحقّق منها دائما عكس المرجو، وبطريقة مفاجئة أغلب الأحيان. وإذا كانت التقنية واختراعاتها تفتتنا بسحرها ما دام عالمها غرائبيا، فهي أيضا عالم شيطاني مرعب، عالم يخرج من دائرة التحكم، عالم يهدد ويهدم بشكل أعمى وهو يتحرك كاسحا كل ما حوله. ولا أدلّ على ذلك إذا أردنا أن نستخدم مجازا يقارب ما يذهب إليه هيدجر، شخصية فرانكشتينFrankenstein)) لماري شيلي Marry Shelle. فهاته الشخصية الغريبة تمثل في مسعاها البشري سعي الإنسان اللامحدود لتوسيع الطاقة والقدرة الإنسانية عن طريق العلم والتقنية. لكن صنيعهما ينقلب إلى وحش ضاري تنفجر في وجهه بصورة لا عقلانية وغير منتظرة وبنتائج كارثية. فإذا كانت الميتافيزيقا دشنت مشروع فهم أصل العالم والمجرّدات، فلقد انطلقت التقنية شيئا فشيئا لتصبح 'ميتافيزيقا مكتملة' في العالم المعاصر، تقارب حلم الفلسفة الأول في فهم العالم، وخير دليل على ذلك مظاهرها التالية: تطور لانهائي، خلق وتجديد أزليين يطبعها في جميع ميادين الحياة، فهي الآن ثورة مستمرة... فهي مشحونة بأكثر أشكال الفرح غبطة وحبورا كمصل البنسلين وبأحلك ألوان المرارة سوادا كمرض جنون البقر والالتهاب الرئوي اللانمطي، إنها فرانكشتين جديدة، بل أصبحت أيضا قادرة على التدمير و جعل الحروب مربحة. إنها بمثابة دوران حلزوني يدور على نفسه إلى ما لانهاية، يحاول تجريب جميع البناءات والتركيبات الممكنة التي يحبل بها. أليس الأمر كما رصده أدورنو في كتابه الكبير Dialectique négative:>. (320:1937) يبدو الإنسان في هذا العصر>. يتصور هيدجر الإنسان قذف في الوجود، وهو وصف أكثر وضوحا لانعزالية الفرد، فالإنسان ليس فقط غير قادر على إقامة علاقات مع الأشياء أو الأشخاص خارج ذاته، بل أصبح من المستحيل نظريا إنشاء تحديد نظري لأصل الوجود الإنساني وأهدافه، ومن ثم أصبح الإنسان كائنا غير تاريخي. لكن هابرماس يرفض أن يكون الأفق مسدودا والمستقبل مظلما، ويتهم فكر هيدجر بالاستسلامية والقدرية. ويؤكد بأن لدى أفراد هذا العصر القدرة على فهم هذا العصر من جهة، وعلى تغييره بعد فهمه من جهة ثانية. فإذا كان هابرماس يدين لهيدجر رائد الفينومينولوجيا التأويلية بالقدرة على استكناه العالم المعاصر واستشراف قضاياه، فإنه يأمل عبر تأسيسه لتأويلية نقدية Herméneutique critique تجاوز هيدجر لفهم العالم ونقد رؤيته للكون بغية تحرير الإنسان. ولا غرابة من أن يعتبر هابرماس مع ذلك)[1971]، 1974) كتاب هيدجر الكينونة والزمان[10] > لاسيما الفصل السادس الذي يتمحور على الخطاب، حيث يحقق هيدجر قفزة نوعية في تجاوز فلسفة الوعي عبر إطار اللغة، وهو بمثابة موت معلن للديكارتية. يعمد هيدجر على تخليص الفكر من نزعته المتعالية وتقديم مقاربة تاريخانية تتجاوز فلسفة الوعي الذاتي، وإن قامت على تأويلية وجوديةHerméneutique existentiale . فالمهم عند هابرماس يتجلى مقياس القيمة الفلسفية للفكر في بعده البرهاني اللغوي، وهيدجر اقترب من ذلك بكثير. لكن ذلك لم يمر من دون نقد شديد وصارم له، لاسيما نظرته النخبوية للحقيقة، أو ما يسميه صيرورة الحقيقة devenir de la vérité التي يدعي أنه يلامسها وعلى مقربة منها، من دون أن يعرض الحجة على ذلك، بل يرفض ضرورة التحقق من صلاحية قضاياه الفلسفية، لأنهل لا تقوم على' قوة'عقلانية تمكنه من حمل مخاطبه على الاعتقاد بها بعد البرهنة عليها. لذلك فإذا تملك الإنسان الرؤية العقلانية النقدية فهو مستعد لأن ينقلب على نفسه ويسائل وينفي أو يحاور كل ما قيل أو سبق أن آمن به، ويحولها إلى سلسلة من الأسئلة الجريئة ومن الأصوات المتناغمة والمتضاربة، تتعايش فيه رؤى الآخرين المنطقية. ولأن يستطيل ويتمدد أفقه إلى أبعد حدود طاقته لتصبح حقائقه مبنية على صحيح البرهان والمحاججة. إن التواصل العقلاني والاحتكام إلى المحاججة والبرهان من صنائع العقل ومميزاته اللذان يفضحان الأوهام المزيفة وكل أصناف الخداع المستشري في الإشهار السياسي والاقتصادي والتقني، ويستطيعان تعرية الذات من نرجسيتها وأنانيتها وأوهامها: إنهما يكشفان أصول الرغائب والدوافع غير القابلة للإشباع. إن صوت العقل مؤمن بقدرته على اختراق الأقنعة وتجاوز المطبات، فحتى أعمق الجروح وأقساها لا تستطيع إيقاف تدفق طاقة البرهان الخلاقة وفيضانه الخصب. إن تبادل الحجج واللجاج المصاحب لها منع لكل دوغمائية واتكالية. فالبرهان الخطابي عند هابرماس صوت متعدد الأصوات، حواري وجدلي يدين الحياة الحديثة وتقنياتها لما تجانب الصواب باسم مشروع الحداثة نفسها، آملا أن يعلو شأن العقل في كل ميادين الحياة وأن تشفى الجروح التي تمزق رجال حداثة اليوم ونسائه. يريد هابرماس البحث عن حل عقلاني للتقنية التي أطبقت على العالم المعيش واستفردت به من جميع الجهات، فهو يقر بأننا نعيش عصر الرأسمالية المتقدمة القائمة على التقنية، بل إن شرعيتها أصبحت مستمدة منها. فلا سبيل إذن للهروب منها إلى جداريات الماضي وأطلاله، ولا مناص أيضا بالاعتراف أن التقنية تعمل بشكل مختلف عن الأيديولوجيات التقليدية لتبرير شرعيتها، وما يميز التقنية عن الأيديولوجيا أنها استطاعت أن تخلق مصالح مرتبطة بوجودها بين جميع الطبقات والشرائح المختلفة، بل اخترقت حدود الجغرافيا والأمم، جميع حدود الطبقات والدول وحدود الأديان والمعتقدات والأيديولوجيات. نتبين ذلك جيدا عندما يعود هابرماس إلى ماركس الذي كان أول هلل للعلم ورفع شعار التقدم والتمايز الذي ظهر بين المجالات، بحيث صرنا قاب قوسين أو أدنى من تسخير الطبيعة والتحكم بها بفضل العلم. الأمر الذي مهد من انتقال آليات التحكم بالطبيعة إلى مجال الحياة الاجتماعية ذاتها. فصرنا نحاول تنظيم حياتنا بغاية الفعالية والنجاعة والتنظيم الحسن والترشيد المعقلن الذي يذلل تطويعها إلى أبعد حد. ومن أهم مظاهرها في عالمنا المعاصر التكنوقراطية صنوة التقنية إن لم تكن صنيعتها:>[11] مرد ذلك أن ماركس يثق في التقنية كوسيلة لتحرير الإنسان من الاستيهام الحالم والأسطورة لأنها محايدة، وهي إيجابية لأنها مرتبطة بتقدم العقل البشري، كما أنه يفترض من خلالها تطورا مطردا لهذه التقدم نتجاوز بموجبه تفسيرات الإلهام السحري للطبيعة التي يسعى العلم أن يكبح جماحها ويشل قدراتها والتي ينتقدها في حينها. ولا يتميز كل من ماركس وانجلز عن ما سواهم من المؤرخين بتفضيلهم للعلاقة الموجودة بين العلم والتقنية فحسب، ولكن لأنهما غيَّرا معنى طبيعة العلاقة التي جرت العادة إعطاءها لهما. فمن دون شك يشجع تطور العلم تطور التقنية، لكن التأثير العكسي هو ما يبدو في نظريهما جدير بالأهمية في هذه العلاقة الجدلية:>[12] ويعتمد ماركس تصورا لآلية التغيير التاريخي على المستوى الاجتماعي، لا تلبث أن تتغير من خلاله علاقات الإنتاج القائمة التي توجد في صالح البرجوازية إلى صالح القوى التي تدفع عجلة التاريخ إلى الأمام، فالتراكم الذي حققته الإنسانية في جميع مجالات الحياة لم يكن ممكنا من دون تطور أدوات الإنتاج، والتي كان من المتعذر أو المستحيل حل إشكالاتها من دون التقنية. وبتركيز شديد، تصبح التقنية عند ماركس ايجابية وبناءة، لأنها مرادفة لتسخير الطبيعة ومفتاح التقدم وتطور قوى الإنتاج، والمطلوب فقط تخليصها من سيطرة فئة معينة وتخليص قوى الإنتاج من قبضة رأس المال والاستغلال وتخليص الإنسان من الاستلاب. ويعتبر ماركس في نظر هابرماس أكبر داعية للتقنية، ولكن تجدر الإشارة إلى أنه إذا كان ماركس قد ناصر التقنية كوسيلة لتحرير الإنسان من الأمراض الفتاكة والأوبئة وجبروت الطبيعة...الخ، فإنه أشار في مواطن متعددة إلى الأخطار التي تحدق بالطبيعة من جرّاء الاستغلال التقني الأرعن لمواردها، يقول:>[13]. ومع ذلك، فالتقنية أو بالأحرى صنوها في المجال السياسي: التكنوقراطية، أبعد من أن يحتكرا مجمل النشاط الإنساني في المجتمع. ولكي يبين هابرماس حدود مفهوم التقنية من منظور ماركس، فإنه يقسم المنظومة الاجتماعية إلى مقولتين: العمل والتفاعل. ومن هذا المنطلق يعيب على ماركس اهتمامه فقط بالعمل والإنتاج داخل دائرة النشاط الأداتي، متجاهلا جانبا لا يقل أهمية عنه يقوم على التفاعل الإنساني كالنشاط التواصلي الذي يعتبر ذا دور كبير في لحم النسيج الاجتماعي أو ما يسمى في علم الاجتماع بالجمعنة أو الجتمعة (Sociabilité). فالفكرة الأساسية التي يحول هابرماس عرضها، أن ماركس يهلل تهليلا كبيرا لقيم العمل والإنتاج ودور التقنية في الرفع من ذلك، ويهمل جانبا لا يقل في نظر هابرماس أهمية عن ذلك: أهمية التواصل في العصر الحديث. يفهم هابرماس العمل كـ'نشاط عقلاني موجـه لهدف وغاية'، وهو ينقسم بدوره إلى نوعين: فعل أداتي agir instrumental يخضع لقواعد تقانيةTechnicité، واختيار عقلاني choix rationnel ينتظم وفقا لاستراتيجيات قائمة على معرفة تحليلية. أما المقولة الثانية التي يهملها ماركس وهي التفاعل interaction أو النشاط التواصلي كتفاعل اجتماعي، يتم بواسطة مجموعة من الرموز والقواعد الإجبارية التي يحدد ما يتوقعه طرف ما من سلوك الطرف الآخر؛ وتستمد هذه الرموز معانيها من اللغة الجارية، خزان التجارب أو روح الشعب كما يقول هيغل. ونظرا لاختلال التوازن بين هذين المستويين بعد أن أطبقت التقنية على النشاط الاجتماعي والعالم المعيش، متخطية بذلك مجالها الطبيعي لتغرقهما في وحل آسن من الاغتراب والتشيؤ، الأمر الذي أدى إلى إصابة الوعي الإنساني من جرّاء ذلك بالخواء المعرفي والزيف الفكري... ) سنعود لاحقا لتبيان الأصول الفلسفية لمقولة التفاعل (. وكخلاصة لذلك، يشخص هابرماس الحداثة الأوروبية على ضوء ماكس فيـبر بأنها عقلانية أداتية، ولقد لخص هذا الأخير المميزات والخصوصية الأوربية تحت مفهوم العقلنة والعقلانية التي تجلت في ازدياد الحسابية والبحث عن الربح والسيطرة المنظمة على كل الجوانب الحياة الإنسانية على أساس قواعد قللت من الاعتماد على القيم التقليدية المتوارثة. فلقد بين ماكس فيبرWeber بالملموس وجود تفاعل متبادل بين الأخلاق الدينية البروتستانتية ونشأة الرأسمالية، وأرسى بذلك لأول مرة الأسس المادية للنظرية الرمزية التي تتناول روح التدين النسكي كنشاط مادي عند الرهبان وتأثيره في نشأة الرأسمالية والتطور الاقتصادي وظهور العقلنة. وأضاف فيـبر إلى ماركس بأن الرأسمالية ليست فقط نتيجة لفعل التراكم المادي عن طريق قوى الإنتاج، بل أخذ أيضا محمل الجد دراسة التأثير المتبادل بين السلوك الديني بوصفه سلوكا اجتماعيا بامتياز يتفاعل فيه الرمز وتنشأ عنه قيم للتواصل في المجتمع إذا ما استبطن الإنسان إيمانه الديني بطريقة عقلانية وتمثله عقليا. ثم أخذ من ماركس التفسير المادي للظواهر الدينية كما تمارس في المجتمع وما تحبل به من قيم دنيوية، ولقد وقف ضد من حاولوا النيل من ماركس عندما ربطوا ميكانيكيا بين ولادة الرأسمالية وـ الأخلاق البروتستانتية ـ والدين المسيحي بطريقة ميكانيكية. يعود هابرماس إلى فيبر ليحاول استنباط عقلانية تواصلية تظبط الممارسة الأداتية التي أضعفت أواصر العلاقات الاجتماعية. وهابرماس محق في محاولة البحث عن ما يظبط العقل الأداتي الوظيفي داخل حقله الطبيعي، و هو يرى أن المعيارية التي تتبلور صيغها في إطار العقلانية التواصلية هي الكفيلة بوأد الهوة السحيقة التي تفصل بين عالمنا والأنساق. يرجع الاهتمام بالمعيارية في عالمنا المعاصر إلى تضارب المعتقدات، ناهيك عن اختلاف الملل والنحل داخل المجتمع الواحد بشكل يستحيل كما يرى هابرماس، فرض تطبيقات أو تأويلات وحيدة على جميع أفراد المجتمع في مجتمع الحداثة:>[14]. إن تراجع دور المكونات التقليدية والعادات في شد أواصر المجتمع المعاصر وتماسكه، يخول للمعايير وظيفة الحفاظ على النسيج الاجتماعي متماسكا. فالمعايير بصفة عامة والقوانين بصفة خاصة مرشحة أكثر من غيرها اليوم أن تلعب هذا الدور لكبح جماح الأنساق والمنظومات الشبكية التي انفلتت من عقالها مهددة العالم برمته، ومن هنا الدعوات المتصاعدة في أرجاء العالم لوضع أنظمة معيارية تقنن التجارة العالمية وحماية البيئة والتحكيم بين الفرقاء المتصارعين... على نحو يكفل التوازن والسلم العالمي ويدعم التنمية... الخ. لقد أصبحت إعادة النظر في المجال الأخلاقي والمجتمعي ضرورة قصوى بالنسبة لهابرماس، بعد أن فقد الدين والتقاليد والميتافيزيقا سلطتهم في توجيه حياة الإنسان كليا، وانحصروا في المجال الخاص بكل فرد، أو أصبحوا عرضة لاستعمالات مختلفة ولم يسلموا بدورهم من اللغط والإقصاء والعنف من طرف من يدعي امتلاك ناصية القول في تأويلهما وحده من دون سائر الآخرين. فالمعايير صيغة ضرورية للتواصل الاجتماعي، والتواصل الاجتماعي في نظر نيكلاس لوهمان أحد أبرز رائدي المدرسة النسقية الوظيفية في علم الاجتماع الألماني المعاصر، عاملا يتيح حصر التعقيد Complexité)) والانشطار الذي يلف بالحياة الاجتماعية المعاصرة وطابعها العارض والمحتمل. تنتج تعقيدات الفعل الاجتماعي من واقع أن الفاعلين في مجهوداتهم التنسيقية يجدون أنفسهم أمام ركام من الخيارات أكثر بكثير من تلك التي يمكن تحيينها، ويشير الطابع العارض (Contingent) إلى إمكانية الفعل الاجتماعي في أن يشق طريقا مغايرا عن التخطيط المبرمج له أو المسار الذي حدد له من قبل داخل الحدث الاجتماعي. فالتوازن هنا توازن متحرك وغير قار. وللرفع من قدر الاحتمالية وعدم اليقين المسلط على الحياة الاجتماعية اليوم، يجب التخلي عن دراسة المجتمع بصفة كلية أو ماكرواجتماعية، والتحول عنها إلى دراسة السلوكات الحية والمتبادلة بين الفاعلين والاقتصار على الحركة الميكرواجتماعية. يعني ذلك اختيار التركيز على التفاعل التواصلي باعتباره سلوك التبادل الاجتماعي المعاصر بامتياز، فـالتواصل أصبح يلعب دورا كبيرا في حياتنا اليومية، وهو من ناحية وظيفية يقوم على رصد ماهو مستقر وثابت في تطلعات الناس ويمكن رصده من زاويتين: - فسواء يقوم بتأسيس تطلع ذهني(Attente Cognitive) عقلاني، يقدم جملة مفاهيم ومعرفة تحليلية للواقع تصبح عملية اكتسابها وتلقينها متيسرة بالتعليم والتربية، أو يُجبر الفاعل في حالة فشله في التأقلم مع الوضع الجديد الذي لم يخطر على ذهنه بتركها وعدم تلقينها أو تعلمها. - أو سواء ينجح في تأسيس تطلع معياري((Attente normative تصبح المعايير آنذاك صيغا لانتقاء السلوكيات وتقنينها وظبطها بغرض الحد من الاحتمالية والتعقيد اللذان يطبعان العالم المعاصر، إلاّّ أن التطلعات المعيارية في مجملها تطلعات عكسواقعية[15] (Contre Factuelles) إجبارية لا تهتم بما هو كائن وإنما بما يجب أن يكون. لكن ذلك لا يكفي للحد من الاحتمالية والتعقيد الذي يطبع عالم التواصل، ما لم يتم التنسيق بين التطلعات المعيارية والذهنية في مستويات عليا، خشية أن نجد أنفسنا في حالة فوضى عارمة لا يمكن تسييرها. لذا تتشكل الأنساق من طرف مستوى ثان من الانتقاء، فتكرارالعمليات الانتقائية على نفسها وعلى عناصرها يجلب تمايزا في صيغ التواصل، والتمايز هنا صيغ من صيغ التغيير الاجتماعي. ولذلك تظهر أنساق عديدة ( الدولة، النقود، المعايير ومنها القانون)، وهنا نجد مفتاح تمايز المجالات المعيارية التي لم يفهمها علم الاجتماع الكلاسيكي ( دوركهايم، ماركس، جيرفيش…الخ) إلا كمعطيات ثابتة، والتي أصبحت اليوم تعرف عملية دينامكية وغير مستقرة في البناء. يتكون النسق من التفاعل القائم بين الفاعلين، وإذا ما استقر على إشباع حاجيات الطرفين فسيكون مدعاة لتكراره ورسوخه وينتظر كل منهم استجابة معينة من بعضهم البعض، بحيث أن استمراريته يولد معايير اجتماعية متفق عليها. وكمثال على ذلك علاقة الإنسان بعمله، فما دام يذهب إلى العمل كل صباح سينتظر من رب العمل أجرته في نهاية الشهر. وما دام كلا الطرفين راضيين بذلك سيتكرر الذهاب كل يوم وستتكرر منحة الأجرة كل شهر، وعلى غرار هاته العملية تتطور القواعد والسلوكيات التي تحكم العلاقة بينهما كما أعراف العمل وقوانينه حتى تتبلور في مؤسسات اجتماعية، تحكم كل منها معايير وقيم ثابتة. وعلى هذا المنوال، تنغلق الأنساق التي تتشكل بهذه الطريقة على نفسها بتمايزها عن محيطها، ومن المؤكد أنها تعرف شيئا ما عنه، لكن فقط بلغتها الخاصة ومصطلحاتها. وهذا ما يجعلها منفتحة، فهي تقوم ببناء قاموسها الخاص بالمحيط عن طريق انتقاء المعطيات المفيدة لحساب إعادة إنتاجها. وبعد هذا الرصد، يتعين فهم المجتمع المعاصر بحسب هابرماس كتزاوج لصيغتين من الاندماج الاجتماعي: النسق من جهة والعالم المعيشي من جهة أخرى.إذ قامت فكرة "العالم المعيشي" كما حددتها الفلسفة الظاهراتية على مقارنة إدموند هيسرل (Husserl) بين نوعين من الحقائق وبين نوعين من العوالم[16]: فهناك حقائق العالم المعيش وهناك أيضا حقائق العلوم الموضوعية، فحقائق العالم المعيش حقائق تاريخية وذات علاقة بتجارب وتراكم خبرات مقرونة بسياقات ثقافية معينة، أما حقائق العلوم الموضوعية فهي كونية – غير ثقافية – ولا تتعلق بمحيط ثقافي ما، بل أن مسلماتها قابلة للتطبيق في كل مكان. بمعنى أن فكرة العالم المعيش تعني عالم الوجود مثلما يحياه الإنسان يوميا في محيط اجتماعي مقرون بسياق اقتصادي وثقافي، فهو عالم التجربة الآنية كما يعيشه الإنسان وهو عالم يتعلق بالإنسان وبيئته الثقافية والجمعية.
Posted on: Wed, 19 Jun 2013 12:21:08 +0000

Trending Topics



Recently Viewed Topics




© 2015